لا تخفي نخب سياسية
وإعلامية مصرية، غيرتها وعدم رضائها عن انفتاح علاقات السودان الخارجية ورفع
العقوبات الأمريكية الجائرة والظالمة التي استمرت عشرين سنة، وتنظر هذه الطبقة السياسية
والإعلامية المصرية لدفء الخطوط وسخونتها بين الخرطوم وعواصم خليجية كأنه على حساب
مصر،
وهذا هو بعض من جوهر
الأزمة الراهنة التي يتناول فيها الإعلام الرسمي علاقة البلدين الجارين ويشن
هجوماً لاذعاً على قيادة الدولة .قلنا بالأمس إن الملفات العالقة بين البلدين، لم يشأ الجانب المصري إغلاقها والتفاهم مع الحكومة السودانية لتجاوزها، وذكرنا قضية حلايب وهي قضية سيادة ولا يمكن للسودان أن يتخلى عن جزء من ترابه، وتناولنا استضافة القاهرة كل فصائل المعارضة السودانية وخاصة المتمردة منها، وتحمل السلاح وتسعى لإسقاط الدولة السودانية كلها وليس الحكومة القائمة، وبالضرورة هذه الحركات تحمل توجهات في خلاصاتها ضد الأمن القومي المصري والمصالح الاستراتيجية التي قامت عليها الدولة في أرض الكنانة، وتطرقنا كذلك لقضية جنوب السودان والاتهامات التي توجه للقاهرة بأنها تدعم حكومة جوبا بالسلاح والذخائر، وهو ما ذكره السيد رئيس الجمهورية المشير عمر البشير في حواره مع رؤساء التحرير الذين رافقوه في رحلته لدولة الإمارات العربية المتحدة، والاتهامات نفسها ليست جديدة، فقد ذكرت المعارضة الجنوبية التي تقاتل حكومة الرئيس سلفا كير أن الطيران المصري قصف مواقعها في منطقة أعالي النيل، بيد أن تلك الاتهامات لم تحفر أخاديدها عميقاً للتأكد منها، ومن جانبها جوبا لم تنف والقاهرة لم تتبرأ.
وأشرنا بالأمس إلى أن التدخل المصري في صراع دولة جنوب السودان مهما كان حجمه أو مستواه، فإن سيؤجج حرباً طالما سعت هيئة الإيقاد التي تمثل دول الجوار الجنوبي إلى حلها وتنفيذ الاتفاق الذي أبرم برعايتها، وكان أهم ما فيه انسحاب القوات اليوغندية التي دخلت الجنوب في ديسمبر ٢٠١٣م لمساندة الرئيس سلفا كير، وتورطت بالفعل في المستنقع الصراعي الجنوبي .
ونواصل الْيَوْمَ لنقول إن الحماس المصري لم يكن بحجم علاقة البلدين ساعة أن أعلن في البيت الأبيض عن رفع العقوبات الأمريكية عن السودان، وكان رد الفعل المصري بعد يومين هو بيان مقتضب صغير من الخارجية المصرية، وترافق ذلك مع أقاويل تزعم أن زعيماً عربياً طلب من فريق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبيل تسلمه قيادة الولايات المتحدة بأيام قليلة، عدم رفع العقوبات بشكل نهائي عن السودان في يوليو المقبل، بل الأكثر من ذلك فوجئ السودانيون بقصة التنظيم المتطرف المصري الذي نشرت وسائل الإعلام المصرية تقارير عنه في يناير الماضي بأنه تم القبض على عناصر منه تنوي القيام بأعمال إرهابية، وأعلن أن التدريب والإعداد لكوادر هذا التنظيم تم تدريبها في معسكرات بالسودان، وتبارت الصحف ووسائل الإعلام المصري في نشر وبث وقائع التحقيق والمحاكمات لعناصر التنظيم المزعوم واعترافات المقبوض عليهم، وفهم كل ذي عينين وعقل أن تلك المسرحية سيئة الإخراج قصد منها قطع الطريق أمام رفع العقوبات النهائي عن السودان وإعطاء الإدارة الإمريكية أدلة مصنوعة على أن الخرطوم مازالت دولة إرهابية وتدعم التنظيمات المتطرفة التي تُمارس الارهاب .
أما بشأن علاقات السودان المتطورة بدولة الخليج، فليس صحيحاً أنها على حساب مصر ولا صلة لعلاقة السودان بأية دولة في العالم بما يتصل بالشأن المصري, ومن البديهي والمنطق القول إن السودان لا يبني علاقاته الخارجية لاعتبارات هذا أو ذاك من الأشقاء والأصدقاء، وهو دولة مستقلة تهمها مصالح شعبها والمنافع المشتركة والمتبادلة مع دول البسيطة المختلفة، وهذه الدول التي تضجر منها مصر الرسمية لها علاقات مع مصر ظلت قوية جداً ومتماسكة الى درجة لا يمكن تصورها، وهي الآن ساندت السلطة الحالية في الانقلاب على الشرعية الدستورية وديمقراطية مصر الوليدة، وقدمت الدعم المالي والسياسي والنفطي حتى استطاعت السلطة الجديدة أن تقف على أقدامها وسيقانها.
ولو أعطي السودان ربع ما منح لمصر من مساعدات وودائع ومنح وقروض خليجية لأصبح الْيَوْمَ في شأن آخر، ولنهض النهضة المرتقبة ولن يدركه بعدها أحد .
إذن علاقات السودان الخليجية يجب أن تفهم في سياقاتها الطبيعية البعيدة تماماً عن مصر وتوهمات بعض نخبها السياسية والإعلامية، فالسودان بلد عربي له دور يلعبه مع أشقائه في كيفية صيانة الأمن القومي العربي وحماية المقدسات الإسلامية، وله دور بارز أيضاً في التحولات الجارية في المنطقة