بعيداً عن الانفعال والتشدد في المواقف،
دعنا نناقش أمر سد النهضة الأثيوبي بموضوعية، ونتفق على أن من حق أثيوبيا الاستفادة
القصوى من ثرواتها الطبيعية والمياه، أهمها إذ أنها تسمى برج المياه لكثرة مياه الأمطار
فيها، وارتفاع أراضيها، واثيوبيا تملك ثروة مائية يقدرها العلماء في العالم بثروة يمكن
أن تنتج خمسة وأربعين ألف ميغاواط من كهرباء المياه قليلة الثمن «سد الألفية الذي يعتبر
الآن أكبر سد في افريقيا لإنتاج الكهرباء تبلغ طاقته ستة آلاف ميغاواط»، وتبلغ طاقة
التوليد السنوي من سد النهضة حوالي ستة عشر مليون ميقاواط- ساعة.. أي ما تعادل قيمته
السنوية قرابة المليار دولار من سد واحد، وإذا استغلت اثيوبيا كل ثرواتها المائية البالغة
خمسة وأربعين ألف ميقاواط يكون العائد السنوي لها من تصدير الكهرباء حوالي الثمانية
مليارات دولار، وذلك يقارب العائد السنوي لكل بترول السودان شماله وجنوبه، ونتفق أيضاً
على أنه من حق مصر أن تتخوف من إنشاء السد في تناقص حصتها من المياه، وانخفاض توليد
السد العالي، وكذلك من حق السودان أن يراجع الفوائد والمضار من إنشاء السد ويوازن بينها.
أثيوبيا تملك الحق في الاستفادة القصوى
من ثروات المياه فيها دون الإضرار بالآخرين، لذلك الحقائق التالية عن السد تجعلنا نصل
الى خلاصة علمية عن فوائد ومخاطر السد على الثلاث دول:
أولاً: تقوم ببناء السد الشركة الايطالية
ساليني Salini وهي شركة عريقة متخصصة في إنشاء السدود، وقامت بإنشاء
ثلاثة سدود في اثيوبيا نفسها، وهي سد جلجل واحد، وجلجل اثنين، وسد تانا.
ثانياً: تبلغ تكلفة السد حوالي خمسة
مليارات دولار توفرها الحكومة الاثيوبية من قروض أو سندات استثمار من مواطنيها.
ثالثاً: تبلغ سعة بحيرة السد حوالي
سبعين مليار متر مكعب مقارنة بسعة بحيرة السد العالي التي تبلغ حوالي مائة وعشرين مليار
متر مكعب، وإذا تم الاتفاق على امتلاء بحيرة سد النهضة في عشر سنوات، يكون الفاقد السنوي
ولمدة الامتلاء سبعة مليارات متر مكعب، علماً بأن حصة مصر في اتفاقية مياه النيل لعام
1959م تبلغ خمسة وخمسين ونصف مليار متر مكعب (55.5) وحصة السودان ثمانية عشر ونصف مليار
متر مكعب (18.5)-، مصر تستغل كل حصتها الآن، والسودان يستغل ما لا يزيد عن عشرة مليارات
متر مكعب.. كل أراضي مصر الزراعية من النيل.. بينما عشرة في المائة فقط من أراضي السودان
الزراعية المستغلة الآن «44 مليون فدان»، المروي منها فقط أربعة ملايين، والباقي مطري،
والسودان يحتاج الى عشرين مليار دولار وما لا يقل عن سبع سنوات لاستغلال حصته كاملة
في إعادة تأهيل المشاريع الزراعية المنهارة وزيادتها الى ثمانية ملايين فدان.
رابعاً: الطاقة الكهربائية المائية
في مصر تعادل 12% من الطاقة الكهربائية الكلية في مصر «في 2010 الطاقة المائية في مصر
كانت 14 بليون كيلواط- ساعة من 121 بليون هي الطاقة الكلية».. لذلك انخفاض 25% من الطاقة
المائية في مصر بسبب سد النهضة تعادل أقل من 3% من الطاقة الكلية».
خامساً: حفظ الماء في بحيرة سد النهضة
يقلل من ارتفاع المياه في بحيرة ناصر في فترة الفيضان، ولكن تخزين المياه في بحيرة
سد النهضة يقلل من فاقد المياه المخزونة في بحيرة ناصر لمدة عشرة أشهر، والتي تفقد
فيها بحيرة ناصر حوالي عشرة مليارات متر مكعب بسبب التبخر في تلك المنطقة الساخنة،
والتي تصل فيها الحرارة الى أكثر من أربعين درجة مقارنة بدرجات الحرارة في بحيرة سد
النهضة المرتفعة، والتي تكون فيها درجات الحرارة أقل من خمس عشرة درجة طوال العام..
والفاقد في بحيرة سد النهضة السنوي يكون تبعاً لذلك في حدود اثنين مليار متر مكعب،
وبذلك يتوقع أن تزيد حصة مصر بحوالي «5%» وكذلك السودان.
سادساً: سد النهضة يحجز خلفه كميات
ضخمة من الطمي الزائد والأجسام الطافية في مياه النيل الأزرق، وبذلك يطيل العمر الافتراضي
لسدود الروصيرص، وسنار، ومروي، والسد العالي.
سابعاً: سوف تتأثر الزراعة بالري الفيضي
في السودان «زراعة الجروف»، إذ سيكون منسوب النيل الأزرق ثابتاً طوال العام دون فيضان
موسمي وانحسار مياهه، والذي كان يتيح الزراعة في الأراضي التي كانت مغمورة بمياه الفيضان.
ثامناً: سد النهضة وهو على بعد أربعين
كيلو متراً من حدود السودان يمنح السودان أفضلية قصوى للاستفادة من الكهرباء بأقل تكلفة،
ويمكن أيضاً توصيل الكهرباء الإثيوبية إلى مصر عبر السودان بموجب شراكات ذكية من الدول
الثلاث.
مما تقدم يتضح أن الاتفاق بين الدول
الثلاث ممكن، وأن السودان المستفيد من فوائد السد ولا يضار كثيراً حسب التلخيص التالي:
أولاً: الخوف من انهيار السد أمر غير
وارد وغير منطقي، بحسبان خبرة الشركة الإيطالية ومسؤوليتها في مراجعة التصميم قبل التنفيذ،
وإبداء ملاحظاتها حسب لوائح المنشآت العالمي، ثم عدم مجازفة اثيوبيا في إهدار خمسة
مليارات دولار في مشروع تحفه مخاطر خاصة، وأن منطقة سد النهضة غير معروف عنها الزلازل
والبراكين.
ثانياً: كل التأثير الوقتي على تقليل
تدفق مياه النيل الأزرق الى مصر والسودان، بما يعادل سبعة مليارات متر مكعب سنوياً
ولمدة عشر سنوات، يمكن أن يكون كله في حصة السودان غير المستغلة والبالغة حوالي
«8.5» مليار متر مكعب مقابل منح السودان كهرباء السد لمدة عشر سنوات بسعر تفضيلي مجز،
وفي هذه الحالة مصر لا يحق لها التحدث عن انخفاض في حصتها من مياه النيل، بل أن حصتها
قد تزيد بحوالي «5%» من تخزين مياه النيل الأزرق في مرتفعات إثيوبيا الباردة، التي
تقلل التبخر الذي تفقد به مصر 21% حوالي عشرة مليارات متر مكعب سنوياً في بحيرة ناصر
الساخنة من تخزين 120 مليار متر مكعب فيها لمدة عشرة أشهر، وطالما أن النيل الأزرق
أنبوب واحد يمر من إثيوبيا حتى البحر المتوسط لا يفرق أين يخزن الماء فيه بعد الفيضان
السنوي، لذلك يمكن الاتفاق بين الدول الثلاث على كيفية إدارة السد بصورة مشتركة وملزمة
تضمن سريان المياه عبره.
ثالثاً: مما أوردنا في هذا المقال في
البند الرابع عن الطاقة الكهربائية وتدنيها في السد العالي، اتضح أن مصر سوف تفقد فقط
«3%» من طاقتها الكهربائية الكلية، إذ أن الطاقة الكهربائية المائية في مصر تشكل
«12%» من الطاقة الكلية، وأن تدني إنتاج السد العالي قد يقل بنسبة «25%».
رابعاً: سد النهضة يطيل عمر كل السدود
التي تليه في السودان ومصر.
خامساً: الري الفيضي في زراعة الجروف
في السودان يمكن الاستعاضة عنه بالري بالطلمبات، التي تعمل بطاقة كهرباء سد النهضة
قليلة التكلفة.
سادساً: يمكن الاتفاق بين الدول الثلاث
على الاستفادة من كل كهرباء السد في إمداد السودان ومصر عبر شبكة دولية مثل دول أورروبا
خاصة، وأن شبكة السودان القومية تبعد حوالي مائة كيلو متر من سد النهضة، وشبكات السودان
ومصر أيضاً لا تبعد عن بعضها أكثر من مائة كيلو متر. من كل ما تقدم السودان لن يضار
بل يستفيد من سد النهضة أكثر من إثيوبيا نفسها ــ كما قال الرئيس الراحل ملس زيناوي
في وقت سابق ــ ويزيد عمق العلاقة ويغذيها بشريان ثانٍ بعد شريان المياه وهو شريان
الكهرباء، ونحن وإثيوبيا في حاجة ماسة لتقوية العلاقة واستدامتها كأمر إستراتيجي للبلدين.
والله الموفق.
م/ عمر البكري ابو حراز