أفرجت الخارجية البريطانية أمس الأول - وهي عادة درجت عليها مطلع ديسمبر من كل عام- عن عدة وثائق تاريخية من بينها خريطة توضح حدود السودان حينما كان مستعمرة بريطانية مع دول الجوار العربي والإفريقي، وحسب الوثيقة الخاصة بحدود السودان، فإن الخريطة المُفرج عنها توضح بشكل قاطع ملكية مثلث حلايب للسودان وليس مصر، وهو ما يجب أن تركز عليه السلطات السودانية خصوصاً الخارجية السودانية في مساعيها لفتح النقاش حول مثلث حلايب بدون «لف أو دوران»، خصوصاً وأن إفراج البريطانيين عن هذه الخريطة «الوثيقة» يجيء في وقت عصيب تشهد فيه العلاقات السودانية المصرية توتراً وتصعيداً ملحوظاً، أدى الى إشعال كوامن الغضب لدى الملايين من أبناء الشعب السوداني، وهو رسالة مبطنة للسودانيين ليس على خلفية المعاملة السيئة التي لقيها العديد من السودانيين هذه الأيام في مصر فحسب، ولكن لخطورة دلالات ومعاني مقتل ستة عشر سودانياً على يد السلطات الشرطية المصرية في سيناء، إضافة الى تراكم المزيد من الأسباب المغذية لموجة السخط الشعبي، ومن بينها ملف اتفاقية مياه النيل وإهمال حكومة السيسي لتطبيق اتفاقية الحريات الأربع، رغم تفاني حكومة البشير في خدمة هذه الاتفاقيات.
إن إفراج البريطانيين عن الخريطة التي توضح سودانية حلايب، هو رسالة دبلوماسية قوية ومزدوجة. فمن ناحية يمكن للخارجية السودانية اذا كانت تعبر عن أشواق وتطلعات السودانيين بصدق، أن ترتدي القفاز وتفتح الملف المسكوت عنه في إطار العلاقات الثنائية الأزلية التي تربط بين البلدين والشعبين أو هذا ما يفترض به أن يكون أو بالعدم يتعين على الخارجية والسلطات السودانية المعنية الاستعداد للذهاب الى (لاهاي) للتحكيم الدولي واسترداد قطعة من التراب السوداني العزيز التي طال اغترابها ويئس المحصورون داخل المثلث من إمكانية انتصاف حكومتهم للإذلال الذي يجدونه وهم تحت سلطة وإن كانت تتفنن في التودد إليهم إلا أنها لا تعبر عن وجدانياتهم ولا تاريخهم، ولن تستطيع بأي حال من الأحوال تقطيع وشائج وعرى الدم التي تجمع بينهم وبين أهاليهم في الجانب الآخر المقابل للمثلث.
لقد ابتُليَ التراب السوداني في عهد الإنقاذ ببلايا ورزايا منكرة، ولم يتوقف الأمر على وضع الأشقاء في مصر يدهم على حلايب وفرض سياسة الأمر الواقع، وإنما بلغ الهوان بمن يفترض فيهم حماية تراب الوطن الإمعان في ممارسة سياسة اللامبالاة وهم يرون أحفاد الملك المقطوع الرأس بسيوف الأجداد الأوفياء وهم يتغولون على مساحة مليون فدان من الأراضي الزراعية الخصيبة في الفشقة وتسرح وتمرح عصابات الشفتة لتقطع الطريق وتنهب وتخطف المزارعين والتجار وتطلب الفدية، إن أسوأ حقبة من حقب التاريخ السياسي السوداني، هي هذه الفترة التي تم خلالها تكريس (الهوان الوطني)، حيث السماح بانفصال الجنوب تحت ضغط القوى الأجنبية والسماح باستلاب حلايب نظير سكوت نظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك على مطاردة المسؤولين السودانيين المتورطين في محاولة اغتياله بمطار أديس أبابا عام 1995م.
وما يخشاه المراقبون بعد إفراج البريطانيين عن خريطة حلايب، ألا يحرك هذا الفتح المبين في نظام الخرطوم ساكناً، وتستمر سياسة تسفيه التراث السوداني الذي يقوم على شعار (جدودنا زمان وصونا على الوطن على التراب الغالي)، ومن المهم الإشارة هنا الى وجود اتجاه إمبريالي مدفوع من قبل بعض البلدان كالولايات المتحدة وإسرائيل وأجهزتها المخابراتية، مخطط يهدف لتعويم الثقافات الوطنية لدى الشعوب عبر فرض الحكومات الضعيفة والسياسات الخاطئة وتكريس الصفقات اللحظية وتغليبها على المصالح العليا للأوطان، ومع ذلك دعونا نؤمل خيراً في مخرجات الحوار الوطني وتوصياته بشأت التعامل مع ملف حلايب والفشقة وأبيي، فالحوار الدائر الآن زائداً مفاوضات الفرقاء بخصوص الحل الشامل، هي الأمل المرتجى في أن يُعاد لهذا البلد تاريخه المسلوب وعزته التي طمستها سياسة التفريط في الأرض وإمكاناته القومية المهدرة في النزاعات الداخلية.
وبما أن التاريخ لن (يفط سطراً واحداً)، فإن عار فصل الجنوب، وبقاء حلايب بعيداً عن أحضان الوطن، ومسرحية الانتخابات الأخيرة التي أجريت فيها، واغتراب الفشقة عن ولاية القضارف واكتظاظها بمدافن الغرباء، كل هذه السطور السوداء سيحفظها التاريخ كلعنات تطارد المسؤولين عنها وتتبعهم الى قبورهم، ولن يسعنا في الختام سوى تقديم أسمى آيات الشكر لبريطانيا على هديتها الغالية ووثائقها الدامغة.
محمد كامل عبدالرحمن