ورد
في الطرفة المشهورة أن طالباً فوجئ في امتحان الشهادة السودانية بسؤال في مادة
التاريخ عن سياسة بسمارك الداخلية وأصيب بخيبة أمل لأنه كان يحفظ عن ظهر قلب
مقالاً عن سياسة بسمارك الخارجية وأسقط في يده وكتب في ورقة الإجابة إن السياسة
الخارجية لا تنفصل وتنفصم عن السياسة الداخلية وكلاهما مكمل للآخر وكتب عن سياسة
بسمارك الخارجية وبذات منطق ذلك الطالب فان سياسة السودان الخارجية هي امتداد
لسياسته الداخلية وتتكامل معها في اطار سياسة كلية متكاملة. وبعد نيل
السودان استقلاله في غرة يناير عام 1956م انضم لهيئة الأمم المتحدة ونال عضويتها
واصبح له فيها مندوب وتمثيل ديبلوماسي وبعد انشاء وزارة الخارجية أقيمت سفارات في
الخارج وتم التبادل الديبلوماسي مع عدد كبير من الدول في مختلف القارات ونال
السودان عضوية جامعة الدول العربية بعد نيله لاستقلاله وفيما بعد كان من المؤسسين
لمنظمة الوحدة الافريقية في عام 1963م بأديس أبابا. وقبل اعلان الاستقلال اشترك في
مؤتمر دول عدم الانحياز الذي عقد في باندونق في عام 1955م وكان رئيس وفده هو السيد
إسماعيل الأزهري رئيس الوزراء وقتئذ. وفي الديمقراطية الأولى زار نيكسون نائب
الرئيس الأمريكي وقتئذ السودان في عام 1958م حاملاً مشروع ايزنهاور وقدم عرضاً
بتقديم المعونة الامريكية لمشاريع خدمية وتنموية تقدمها هبة للسودان واختلف
الحزبان الحاكمان المؤتلفان حول هذه المعونة والهبة ووافق عليها حزب الأمة ورفضها
حزب الشعب الديمقراطي الذي كان على صلة حميمة بالنظام الناصري الحاكم الذي لم يكن
موافقاً علي اخذ السودان تلك المعونة
. وابتدر الحكم العسكري النوفمبري برئاسة الرئيس إبراهيم
عبود عمله بقبول تلك المعونة الامريكية التي تم بموجبها انشاء شارع الخرطوم مدني
وانشاء شارع المعونة بالخرطوم بحري .... و .. الخ ووظف النظام النوفمبري
الديبلوماسية لصالح التنمية مستغلاً ظروف الحرب الباردة بين القطبين العالمين
المتنافسين وقام الرئيس عبود وفي معيته وزير خارجيته الأستاذ أحمد خير المحامي
ووزراء آخرين مختصين بزيارات لدول في الشرق والغرب وأتوا بمساعدات ومنح من هنا
وهناك . وعند زيارة الرئيس إبراهيم عبود للولايات المتحدة الامريكية أرسل له
الرئيس جون كنيدي طائرة خاصة اقلته من مطار الخرطوم واعادته إليه واستقبله هو
وزوجته جاكلين كنيدي في المطار وبالغوا في الاحتفاء به وبوفده المرافق له ومن المؤكد
أن المعونات واقامة المشروعات والمساعدات ستنهمر علي السودان ولكن شاءت ارادة الله
سبحانه وتعالى ان يتم اغتيال الرئيس كنيدي في تكساس بعد فترة قصيرة من تلك الزيارة
وقفل خليفته الرئيس جونسون ملف السودان ولم يوليه اهتمامه. ومنذ فجر عهد مايو اتجه نظام الحكم الوليد
وقتئذ بكلياته وانفتح علي الدول الشرقية وكتلة الدول الشيوعية وقام الرئيس نميري
والوفد المرافق له بزيارة للاتحاد السوفيتي استقبل فيها استقبالات حارة في موسكو
وعدة مدن أخرى ولكن العلاقات ساءت بين الطرفين بعد انقلاب يوليو عام 1971م الفاشل
واتجه النظام المايوي بكلياته نحو الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة
الأمريكية بعد توقيع اتفاقية اديس أبابا في شهر مارس عام 1972م . وفي مطلع ذلك
العهد وبمبادرة من رئيس النظام قامت حملة محلية وعالمية لمحاربة العطش في دارفور
وكردفان مع إقامة مشاريع تنموية كمشروع الرهد الزراعي... الخ وفي إطار انفتاحه على
الغرب عمق النظام المايوي علاقته بالبنك الدولي ونفذ فاتورة صندوق النقد الدولي
بحذافيرها وترتبت على ذلك آثار سالبة ومنذ عام 1978م أخذت قيمة الدولار في الصعود
وأخذت قيمة الجنيه السوداني في الهبوط والانخفاض علماً بأن الجنيه السوداني في
الماضي كان يعادل ثلاثة دولارات وثلث والآن أصبحت قيمة الدولار الواحد تساوي في
السوق الموازي «الأسود» أكثر من أربعة عشر جنيهاً سودانياً. وفي أواخر العهد
المايوي جمدت شركة شيفرون عملها في السودان ورفضت استخراج البترول بعد اكتشافه وتم
الإيقاف بضغوط من الحكومة الأمريكية ومراكز الضغط الأخرى لأن النميري أعلن تطبيق
قوانين الشريعة الإسلامية واشترطوا عليه إلغاءها لتستأنف الشركة عملها ولكنه رفض
فأداروا له ظهر المجن. ومن الدروس والعبر التي ينبغي الاستفادة منها أن أحد مبعوثي
الحكومة من الوزراء زار البرازيل وهناك اكتشف ان البرازيليين أخذوا يتحفظون في
تعاملهم المالي مع السودان لأنه أخذ منهم قرضاً في منتصف سبعينيات القرن الماضي
قيمته أربعة ملايين دولار ونصف لتمويل شراء بصات أبو رجيلة ولم يتم تسديد القرض
واخذت أرباحه المركبة تتراكم حتى أصبح القرض قبل سنوات بأصله وأرباحه المركبة
يساوي خمسة وأربعين مليون دولار أي أنه تضاعف أكثر من عشر مرات وما زال يوالي
الزيادة بأرباح مركبة جديدة. وإذا حدث هذا نتيجة أخذ قرض صغير فما بالك بقروض
كبيرة أخذت من عدة دول وبنوك وبيوت مال أجنبية لتنفيذ مشروع كبير وإذا لم تسدد
الأقساط في مواعيدها المحددة فانها ستتضاعف أضعافاً مضاعفة. وان ديون السودان
الخارجية تمثل عبئاً ثقيلاً على كاهل الشعب السوداني واذا لم تعالج هذه المعضلة
فإن الأجيال الحاضرة واللاحقة ستدفع الثمن غالياً، وهذه الديون المتراكمة تدخل في
إطار التعامل الاقتصادي غير الرشيد مع الدول الدائنة في الخارج وتصبح كمسمار جحا
وأداة ضغط في أيدي دول الاستكبار العالمية. وفي التعددية الحزبية الثالثة امتنعت
امريكا عن دعم الحكومة الحزبية ومساندتها مالياً وعينياً ولكنها دعمت الحركة
الشعبية المتمردة علي السلطة الشرعية، أما الاتحاد السوفيتي فلم تسفر زيارة السيد
رئيس الوزراء له في ذلك الوقت عن شي ملموس يذكر واكتفى سيادته بإلقاء خطبة عصماء
في لقاء أمه جمع من المسلمين السوفيت هناك ومع ذلك حصلت الحكومة الحزبية في
سنواتها الثلاث على قروض من بعض البنوك وبيوت التمويل الخارجية وأضحى ما حصلت عليه
ديوناً متراكمة بإضافة أرباح مركبة لأصلها سنوياً، ويضاف لكل ذلك القروض والديون
التي نالها السودان في هذا العهد من بعض الدول والبنوك الكبيرة الشهيرة وبيوت
المال والتمويل. وإن الديون الخارجية التي تقع على عاتق السودان تمثل عقبة كأداء
ينبغي اجتيازها. وان دول الاستبكار الغربية الاستعمارية لن تدع السودان وشأنه ولن
تتفرغ له ولكنها لن تكف عن أذاه ولذلك فانها توالي دعمها للعصابات المتمردة
المنفلتة والخلايا النائمة الخبيثة لتكون شوكة حوت في حلقه. والوطن الغالي بحاجة عاجلة وماسة
لمعالجات كلية تتطابق فيها السياسة الداخلية مع الخارجية ولا بد من وحدة وطنية
حقيقية على أسس واضحة راسخة تعلو فيها مصالح الوطن العليا على ما سواها.
صديق البادي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق