في السياسة لا صداقات دائمة ولا عداوة دائمة، بل مصالح متبادلة..
بدا هنري كسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأشهر، كما لو أنه يخاطب بمقولته تلك (الخرطوم)..
المدينة التي كانت تبدأ صباحاتها في تسعينيات القرن الماضي وهي تغني في معسكرات تجييش
شعبها: “الطاغية الأمريكان ليكم تسلحنا”. هي ذاتها الخرطوم التي يحتمل أن تمنع من يخرجون
ضد أمريكا في شوارع المدينة.. في أيامها السابقات كانت الخرطوم تخرج شاهرة هتافاتها
(داون داون يو إس أيه.. لن تحكمنا السي آي أيه)، هي ذاتها الخرطوم التي كانت تحتفي
أمس وعلى صدر صفحات جرائدها الأولى بلقاء جمع بين الفريق أول مهندس محمد عطا مدير جهاز
الأمن والمخابرات الوطني مع مدير الـ(سي آي أيه).
مؤكد أن خرطوم التسعينيات تختلف تماماً عن خرطوم اليوم، التي بدأت
تخلع عنها مواقفها القديمة عقب التحولات التي اعترت المشهد الإقليمي برمته، وهو أمر
دفع بشبكة الـ(سي إن إن) لوصف حسابات الخرطوم بالصحيحة في تعاطيها مع التحولات في المنطقة
حولها، وأن قراءتها للمشهد الدولي والإقليمي جعلتها في مأمن مما جرى للعواصم حولها..
ربما جديد المشهد السوداني الأمريكي هو أن الخرطوم لم تعد ذلك الشر المطلق بالنسبة
للولايات المتحدة الأمريكية، في ذات التوقيت الذي لم تعد فيه الـ(سي آي أيه) هي ما
يجب اجتنابه لدى المسؤولين السودانيين.
ربما يبدو مشهد اللا فرق بين الخرطوم وواشنطن ماثلاً وملخصاً لتحولات
كبيرة في علاقة الكيانين السياسيين، وهي التحولات التي دفعت بواشنطن أن تلوح برفع حظرها
المفروض على السودان منذ عشرين عاماً.. السودان المكتوب في الدفاتر الأمريكية بأنه
أحد رعاة الإرهاب الدولي، لكن الرعاية السودانية للإرهاب سرعان ما يصفها المسؤولون
في الأجهزة الأمنية بأنها أمر صار من التاريخ حين يعترفون بتقديمهم خدمات عظيمة لأمريكا
في مشروع مكافحة الإرهاب، وتحديداً منذ عهد جورج بوش الابن ودخول عبارة (من ليس معنا
فهو ضدنا) حيز التنفيذ.. ما كان للاعتراف الرسمي أن تكون له قيمة ما لم تؤكد عليه الأجهزة
الرسمية الأمريكية ومبعوثيها في السودان، حين يقولون: “لم تعد خرطوم الأمس موجودة الآن”؛
بل ثمة خرطوم أخرى تمضي بخطوات حثيثة في سبيل إنجاز التحولات الإيجابية التي ستفضي
في نهاية الأمر للحفاظ على الأمن القومي الإقليمي وبالتالي المساهمة الفاعلة في السلام
العالمي، وهو الأمر الذي تستحق عليه الخرطوم الدعم في سبيل إكمال خطواتها الإيجابية
نحو التحول.
زيارة مدير جهاز الأمن للولايات المتحدة الأمريكية في هذا التوقيت،
يمكن أن يطلق عليها تدشين علاقة جديدة مع الـ(سي آي أيه) دون أن يتم فرزها عن الإطار
العام الذي تتحرك فيه الآن العلاقات السودانية الأمريكية التي تراوح مكانها بين القبول
والرفض، كما أنه لا يمكن إخراجها من السياق العام المتعلق بالمهلة الأمريكية في انتظار
الرفع الكامل لعقوباتها عن السودان بشكل كامل.
يقرأ البعض زيارة عطا في إطار التحول الإيجابي خصوصاً وأن جهاز
الأمن السوداني حاضر بقوة في مفاوضات الجانبين السوداني الأمريكي، بل إن كثيرين يمضون
أكثر من ذلك في إشارة إلى أن الزيارة ستكون نقطة التحول الرئيس في تفاصيل علاقات الخرطوم
وواشنطن، باعتبار أن الأخيرة يمثل الجانب الأمني أحد أكثر العوامل تأثيراً في تعاطيها
مع الدول، مقروءاً ذلك برغبتها في إعادة رسم خارطة المنطقة بما يتماشى مع الرؤية الأمريكية،
وهي رغبة تتعلق بشكل كبير بما يمكن أن يقدمه السودان باعتباره أكثر الدول تأثيراً فيها؛
فعلى سبيل المثال فإن السعي من أجل إعادة الاستقرار في جوبا يمر بالخرطوم، وغير ذلك
من القضايا في منطقة القرن الأفريقي ومنطقة البحيرات، عليه فإن تعبيد الطريق مع الخرطوم
يرسم طرق العبور لاتجاهات أخرى.
هبوط طائرة مدير جهاز الأمن والمخابرات يدشن لمرحلة جديدة عنوانها
العريض (التعاون بين مؤسسته والمؤسسة التي تحكم وتتحكم في العالم)، وهو هبوط يرى البعض
أنه يدفع في إطار الهبوط الناعم للقرارات الممهورة بتوقيع دونالد ترامب، باعتبار أن
القرار المتعلق بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة يتم تدشينه في مطابخ الـ(سي آي
أيه) قبل انتقاله إلى المؤسسات الأخرى في الدولة العظمى.
بغض النظر عن السؤال المتعلق بالجديد عقب الزيارة باجتماعاتها
وما المخرجات التي يمكن ألا ترى النور، باعتبار أن الأمن في الأصل سره الكتمان، فإن
المؤكد مستقبلاً هو أن التعاطي مع مصطلح الـ(سي آي أيه) لن يكون بذات التناول السابق،
فهو لم يعد شراً كله بحسب أدبيات الخرطوم التي خلعت عنها رداء الأيديولوجيا وتوشحت
رداء المصالح.
الزين عثمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق